الخميس، 17 يوليو 2008

مني

إلتقينا بمني خلال إحدي رحلات علاج جدتي ماما عزيزة في فرنسا ، جميلة إن لم تكن جميلة جدا بنظري علي الأقل ذات شخصية جذابة ولبقة في الكلام . كنا ننتظر موعد دخولنا للدكتور عندما أقبلت ترافقها خادمة أسيوية وحيتنا بأدب وبلهجة كويتية بثت فينا الحنين لوطننا ووجهت كلامها الحنون مباشرة لجدتي مع إبتسامة دافئة لي : خير يا أمي عسي ما شر ؟ صار لكم زمان بفرنسا ؟ اول مرة ألتقي فيكم ؟






ردت جدتي : خير يا بنتي صار لنا إسبوعين من وصلنا وزيارتي هذي روتينية من بعد العملية اللي سويتها من ست أشهر . يبون يتأكدون من عدم ظهور المرض الخبيث بمكان ثاني .






مني : إي والله خبيث مثل ما قلتي لكن خلك قوية هالمرض يدور علي النفسيات الضعيفة ويفترسهم . شوفيني صار لي سبع سنوات وأنا أحاربة ، وأمارس حياتي بشكل طبيعي وأدير مدرسة بنات ثانوية وشاغلة كل وقتي حتي ما أفكر بالمرض والحمدلله كله بلاء من رب العالمين . بالإذن يا أمي موعد دخولي للدكتور قد حان أراكم لاحقا .






يا لها من إمرأة تتفجر طاقة وحيوية ويبدوإنها في منتصف الأربعينات من العمر بحكم المنصب الذي تتولاه كمديرة مدرسة إلا أنه تبدو كأنها في الثلاثينات من العمر .






إنشغلت بموعد جدتي وفحوصاتها إلي أن إنتهينا في الساعة الثانية ظهرا ، ووقفنا بجانب الباب الرئيسي للمستشفي ننتظر سيارة التاكسي .






جدتي تكلمني : آمنة !






أنا : نعم يمة العودة .






جدتي : ما شفنا أحد من أهل مني بس إهي والخدامة ؟ إتهقين إنهم جايين بروحهم ؟






أنا : ما أظن يمة أكيد معاها مرافق وناطرهم بالفندق مثل مرافقنا علي أساس إنها متعودة علي المستشفي مو أول مرة تجي .






جدتي بإصرار : ما علي منك وقولي ما قلت مني ما معاها مرافق !






صوت مني من خلفنا : زين اللي لقيتكم . ما عرفت وين ساكنين ؟ ودي آخذكم العصر بجولة أعرفكم بالمدينة .




علمنا إنها تسكن في نفس فندقنا وفي الحقيقة معظم الكويتيين والخليجيين يسكنون به .




وبحكم الجيرة في السكن والعلاج في نفس المستشفي تقاربنا كثيرا مع مني وأمضينا شهر كامل ورجعنا قبلها للكويت وطوال كل تلك الفترة لم نرأي مرافق لمني غير الخادمة الأسيوية وكانت تجتهد في تدليلها حتي لا تهرب منها في الغربة كحال معظم الخادمات .




لم نسأل مني أبدا عن وضعها الغريب إلا أن جدتي كل ليلة عندما تستلقي في فراشها كانت تجتهد في تعداد أسباب عدم وجود مرافق أو مرافقة لمني وكنت أجاريها أحيانا في هذا الفضول وأحيانا ألتمس الأعذار لهم وأحيانا أخري وبصراحة كنت أتظاهر بالنوم وأستمع لجدتي وهي تكلم نفسها وتتذمر مني : نومتها بمخباها بس تحط راسها عالمخدة شخرت .




عدنا للكويت ولم تفارق خيالنا مني المريضة المليئة بالحياة وكل من زار جدتي وهنأها بسلامة العودة أصبح يعرف مني من كثرة حديث جدتي عنها حتي صارت رؤية مني والتعرف عليها أمر مرحب به من جميع رواد دار عزيزة .



بعد عودة مني بالسلامة للكويت إتصلنا بها مرحبين عودتها للوطن وطلبنا عنوانها لنزورها إلا أنها أصرت أن تزورنا أولا تقديرا لجدتي ومن بعد يمكننا رد الزيارة لها .



وفي اليوم المحدد لزيارة مني أبلغت جدتي جميع رواد الدار بأن عشاء الليلة علي شرف مني وحضورهم يساوي مكانة جدتي في قلوبهم . من الواجهة الزجاجية للصالة رأيناها وهي تنزل لوحدها من سيارة حديثة يقودها سائق .



أرسلتني جدتي لأستقبلها من باب الدار الرئيسي وهذا الشيء يعني الكثير عند جدتي ، قطعنا بخطوات قليلة حوش المنزل ووصلنا للصالة . جفلت قليلا مني من عدد الحضور الكبير وإغرورقت عيناها بغلالة رقيقة من الدموع وقالت وهي تقبل رأس جدتي : هذا كثير علي ما أستاهل كل هالعزيمة ، كنت أعتقد إن زحمة السيارات اللي برة لحفلة زفاف عند جيرانكم . أنزلت رأسها وقالت بخجل : والله خجلتوني . شكرا علي كل شيء .



تعرفت مني علي الحضور مجموعة منهم وجوههم مألوفة لديها بحكم عملها كمديرة مدرسة وواحدة تربطها بصلة قرابة بعيدة وواحدة تعرفت علي والدتها الله يرحمها وسألتها عن والدها وهي تضحك : إن كان عايش فأنا علي إستعداد للزواج منه فزمان خطبني وما صار نصيب والحين أنا فاضية فزوجي مات من ست سنوات .


مني وهي تبتسم : والله يا خالتي هذي الساعة المباركة ولا ودي أخيب ظنك وأضيع عليك فرصة تكونين فيها عروس مرة ثانية لكن أبوي الله يرحمه توفي من ثمان سنوات.


وكان هذا الحوار الطريف بداية للحديث عن متعة شهر العسل في هذا الزمن وفناتك حفلات الزفاف ولطف الرجال حاليا وتدليلهم لزوجاتهم مقارنة مع زمانهم الصعب ومعاملة أمهات أزواجهم لهم فكل شيء تبدل . حتي إن أحد الجدات شطت قليلا وكانت أطرفهن وقالت : ودي أحمل بعد بعد الزواج حتي أجرب الطلق الصناعي ووألبس قميص النوم وأتلحف بالكوفر الكشخة وأسوي إستقبال بأحد هالمستشفيات الخاصة حالي حال البنات .


ضحكنا جميعا كما لم نضحك من قبل وتعشينا وبعد العشاء أثنينا علي أطباق بعضنا البعض ووزعنا الأوراق والأقلام وتبادلنا الوصفات وسكتنا تماما عندما قال مذيع الأخبار إنتقل إلي رحمة الله تعالي ورفعنا صوت التلفاز عاليا وبعدها علقنا علي الوفيات نتباري بمعرفتهن ونتساءل عن سبب وفاتهم وبالذات إذا كانوا من صغار السن وبالطبع تواعدت مجموعة من الحضور للذهاب لتقديم العزاء.


بدأ الحضور بالإستئذان والإنصراف تدريجيا وبقيت مني آخر الحضور إنصرافا فكلما همت بالإنصراف إستبقتها جدتي . أكدت مني لجدتي إنها ليله لا تنسي وأصرت علينا برد الزيارة وأعطتنا العنوان وكان عنوان شقة بعمارة بالسالمية !


في الموعد المحدد تجهزنا أنا وجدتي لزيارة مني ولم ترغب جدتي بدعوة أي أحد بإستثنائي لهدف في رأسها فقد شغلها الغموض الذي يلف بمني وحياتها الإجتماعية المنعزلة وأرادت أن تكون الزيارة جلسة للفضفضة علها تستطيع المساعده .


العمارة تقع علي شارع الخليج العربي . عمارة أنيقة وجديدة تلفت النظر بطابعها المعماري المميز . المدخل جميل والحراسة مشددة . إتصل رجل الأمن علي مني وسمحت بدخولنا وصلنا إلي الشقة في الدور الأخير وكما يطلق علية الروف وفتحت مني لنا الباب بنفسها ورحبت بنا بحرارة وكذلك كنا .


في الحقيقة الشقة غاية في الروعة والإناقة والألوان متجانسة تبعث الراحة الهدوء في النفس .


مني : أولا يا خالتي تباركت الشقة بجيتك وثانيا راح ألف فيكم بالشقة تتفرجون عليها وبعدين تختارون المكان اللي يريحكم
ونسولف فيه .


وبدأت مني الجولة بالمطبخ : في هذا المكان أمارس هوايتي وهي الطبخ وأتفنن فيه وبعدها إلي الصالة الفسيحة والتي تنتهي ببلكونة مؤثثة بطاولة وأربع كراسي وتطل مباشرة علي البحر ومنظر الواجهة البحرية والمطاعم المنتشرة عليه. خرجنا من البلكونة إلي غرف النوم . غرفة مني الرئيسية واسعة ملحق بها غرفة تبديل للملابس مرتبة بعناية وكأنها محل لبيع الملابس والحقائب والأحذية وفي الجانب الآخر من الغرفة حمام لا يقل روعة عن غرفة النوم وكأنه صفحة من مجلة ديكور .


جدتي : والله تعجبيني يا مني عفية عليك متعة نفسك .


مني : بعد خالتي ما خلصنا . هذه غرف الضيوف وحدة للأولاد ووحدة للبنات حق عيال خواتي وإخواني إذا باتوا عندي


لأنهم يتناوبون بالنوم عندي . إخواني قبلوا إني أسكن بشقة بشرط عيالهم يكونون معاي وأنا ما عندي مانع بالعكس أونس لي .


وهذي غرفة مكتبي وهواياتي وأخيرا هذي غرفة الخادمة وهنا شهقت وقلت : يا بختها ليتني أنا الخادمة عندك يا حلوها من غرفة صج أبسط من باقي الغرف لكنها تاخذ القلب .


مني : بعد ما شفتي غرفة السايق خارج الشقة بجانب الباب الرئيسي . ما لاحظتوها ؟


أنا : لا والله بس ليش كل هالكشخة حق خدام ؟


مني : صج إنهم خدام وأعطيهم معاش مقابل هذا لكن هم اللي معي طول اليوم ويباروني بمرضي وتعبي . أهلي مو مقصرين ولا عيالهم لكن وراهم أعمال ودراسة وأسر يرعونها . كل من لاهي بدنيته .


مني : هذي كل الشقة وين حابة تقعدين يا خالتي ؟


جدتي : والله إذا راده علي بختار البلكونة هوا البحر ما ينعاف تكسرنا من هوا المكيفات .

جلسنا وقدمت لنا ما لذ وطاب من صنع يدها ويد خادمتها التي دربتها وأدخلتها دورات الطبخ معها علها تستفيد وتتقن الطبخ لتضمن لنفسها مهنة أخري تدر عليها دخل مرضي في المسقبل . وضعت جدتي يدها علي كتف مني وسألتها : بنتي لا أقصد أن أتدخل بحياتك ولكن ما هي قصتك ؟ لا ينقصك شيء بالمرة ولكن ما هي حكايتك ؟ دخلت في قلبي من أول ما رأيتك في فرنسا ولكني دوما أراك وحيدة ؟ هل أستطيع مساعدتك ؟ تعمدت أن أزورك مع حفيدتي فقط علك تفتحين قلبك لي !



عم السكون لحظات وأرسلنا أنظارنا جميعا للبحر نحن ننتظر الإجابة ومني تفكر من أين تبدأ وأخيرا قالت : أعتقد مع مرضي هذا لم يبق لي الكثير لأعيشه كما أكد لي الدكتور المعالج في فرنسا فالمرض وصل لمراحل متقدمة لذا سوف أحكي حكايتي ولأول مرة وأعتقد أنها آخر مرة أيضا .





قالت مني وهي تتذكر: كنا نعيش في منطقة السالمية أنا وأمي وأبي وجميع إخوتي وكنت أحمل الترتيب الوسط في البنات أما الأولاد فجميعهم يكبرونني .



كنت أحب المدرسة والتعلم حتي تخرجت وعملت مدرسة وتدرجت في الوظيفة بسبب حبي لها . أخواتي لم يكملن تعليمهن والشاطرة فيهن أكملت الثانوية العامة وتزوجت وأصبحت ربة بيت . وكذلك الأولاد أكملن الثانوية وعملن بوظائف الحكومة . وكنت خلال عملي وكسبي للمعاش أساعد أخواتي وإخواني في مصاريف الحياة لدرجة أني دفعت مهر زواج أحد إخوتي والآخر تكفلت بمصاريف سفر شهر عسله فقد كان هذا شرط العروس لقبولة زوجا لها . ومع كل هذا كنت أرعي أمي وأبي وأتكفل بمصاريف المستشفيات الخاصة إذا إحتاجوا لها بالإضافة إلي مصاريف الخدم والسائق وصيانة المنزل وكنا جميعا راضيين بذلك وكنت سعيدة بما أقدمه لوالدي كنوع من البر والإحسان لهم ولإخوتي فمعاش والدي التقاعدي لا يكفي . وسارت الأمور كذلك حتي توفي والدي أمي أولا ثم والدي . بعد إسبوع من وفاة والدي صار الكل يتكلم بنغمة واحدة وهي حاجتهم للمال فهناك من يريد أن يستكمل بناء منزله وهناك من يريد أن يشتري أرضا أما الأخوات فواحدة محتاجة للمال لأنها تريد تجهيز بنتها للزواج وإقامة حفلة لها والأخري تريد شراء سيارة فخمة لولدها وإدخار الباقي لشراء سيارة العام المقبل لبنتها أما الأخت الصغري فهي تريد نصيبها من الإرث وبس ولا تريد أن تزور منزل والديها لأنه قديم ويذكرها بذكري والديها وفقدانهم المؤلم لها وطالما هي لا تزور فما الحاجة في بقاء المنزل وإني أستطيع أن أكون ضيفة علي من أريد من إخوتي .



استمرت الضغوط علي لمدة سنة كاملة والكل يصور لي أن مشاكله المادية تنتهي ببيع منزل العائلة وتوزيع التركة فيما بينهم . خلال هذ الفترة عشت في حيرة وإكتئاب فالمنزل يمثل لي ذكرياتي وريحة أمي وأبي حيث أشعر بالراحة لأني أعيش في حلالهم . تعودت علي كل شيء حولي الجمعية التعاونية والعاملين بها ، المستوصف والجيران حتي هواء السالمية الرطب تعودت عليه وأفتقده بشدة عندما أغيب عنه.


عرضت علي إحدي أخواتي أن أعيش عندها وكذلك إثنان من إخواني إلا أنني فضلت أن أعيش لوحدي لشيء في نفسي عليهم جميعا مع قبولي بشرطهم أن يتناوب أولادهم بالمبيت عندي . وتستغربين إذا قلت لك أن باقي إخوتي وأخواتي لم يدعونني للعيش عندهم ولو من باب المجاملة وعذرهم إنهم يريدون الإستقلالية بحياتهم والعيش بمنازلهم بدون تقيد بأحد وهذا رأيهم بالإتفاق مع أزواجهم وزوجاتهم .


بعد بيع البيت وخلال بحثي عن شقة أحسست أن صحتي ليست علي ما يرام ومن الفحص الأولي تبين أني مصابة بالمرض الخبيث . سكتت مني لحظات ثم أكملت : عندها قررت أن أمتع نفسي وأنبسط ولا أسمح لأي شيء أن يكدرني .


بحثت عن شقة مطلة علي البحر وتعاقدت مع مهندسة ديكور حتي خرجت الشقة بهذا الشكل الذي ترونه وطبعا كان كل هذا بمساعدة بعض إخواني الطيبين .


بعد إستقراري بالشقة أبلغت أخواني وأخواتي بمرضي .


ومن الصدف يا خالة عزيزة أنه بعد بيع منزلنا إرتفعت أسعار أراضي السالمية بشكل خيالي والسبب هو تحويل إستخدام الأرض من سكني إلي إستثماري ، وكان هذا من نصيب الذي إشتري بيتنا ونفذ علي أرض منزل أهلي مجمع سكني ضخم .


ماما عزيزة : والله يا بنتي حزنتيني علي قصتك وبيتي مفتوح لك متي ما تبين . شايفة لو أنهم خلوك بالبيت وصبروا كان هالمجمع السكني من نصيبهم وإنتي ساكنه بأحد شققة . خسروك وخسروا رزقة كبيرة لهم .


مني : الحمدلله علي كل حال قدر الله وما شاء فعل .


هناك 5 تعليقات:

EXzombie يقول...

مرحبا بكم في الصفاة

nikon 8 يقول...

الله يسلمك وشكرا علي الدعوةوعموما أنا من قراء مدونتكم بس صبروا علي شوي لأني جديده علي الكار مثل ما يقولون .

um.alzain يقول...

قرأة القصه مرتين ولقيت صعوبه شديده على التعليق عجز لساني عن التعبير من الحزن والزعل على فتاة جميله رقيقه اصابها المرض الخبيث وتركت وحيده تصارع المرض في الغربه وكيف احتضنتوهاوخففتو عنهامعانات المرض والغربه وفراق الاهل بالاضافه لمشاكلهم مع توزيع الورث وبيع بيت الاسره فعلا قصه قويه .

nikon 8 يقول...

um alzain
هذه هي الدنيا الحين كل من عينه على الماديات وبس وكل من يقول يا الله عمري .
شكرا على مشاعرك الرقيقة .

um.alzain يقول...

لا امتلك تبرير للظواهر السلبيه "حب الماديات وحب النفس والانانيه" ولا امتلك كلمات ارسلها لكم ....... ولكني املك قلب يدعو لي ولكم ولمنى بالمغفره والرحمه.